فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} استئناف رابع بعد اسئتناف جملة {هُوَ الحَيُّ} [غافر: 65] وما تفرع عليها، وكلها ناشىء بعضه عن بعض.
وهذا الامتنان بنعمة الإِيجاد وهو نعمة لأن المَوجُود شرف والمعدوم لا عناية به.
وأدمج فيه الاستدلال على الإبداع.
وتقدم الكلام على أطوار خَلق الإنسان في سورة الحج، وتقدم الكلام على بعضه في سورة فاطر.
والطفل: اسم يصدق على الواحد والاثنين والجمع، للمذكر والمؤنث قال تعالى: {أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء} [النور: 31] وقد يطابق فيقال: طفل وطفلان وأطفال.
واللامات في قوله: {ثُمَّ لِتَبْلُغوا أشُدَّكُم} وما عطف عليه بثم متعلقات بمحذوف تقديره: ثم يبقيكم، أو ثم ينشئكم لتبلغوا أشدكم، وهي لامات التعليل مستعملة في معنى إلى لأن الغاية المقدرة من الله تشبه العلة فيما يفضي إليها، وتقدم نظيره في سورة الحج.
وقوله: {ولتبلغوا أجَلًا مُسَمَّى} عطف على {لِتَكُونُوا شُيُوخًا} أي للشيخوخة غاية وهي الأجلُ المسمّى أي الموت فلا طور بعد الشيخوخة.
وأما الأجل المقدّر للذين يهلِكون قبل أن يبلغوا الشيخوخة فقد استفيد من قوله: {وَمِنكم مَّن يُتَوفَّى مِن قَبْلُ} أن من قبل بعض هذه الأطوار، أي يتوفى قبل أن يخرج طفلًا وهو السقط أو قبل أن يبلغ الأشدّ، أو يتوفّى قبل أن يكون شيخًا.
ولتعلقه بما يليه خاصة عطف عليه بالواو ولم يعطف بثم كما عطفت المجرورات الأخرى، والمعنى: أن الله قدّر انقراض الأجيال وخَلَقَهَا بأجيال أخرى، فالحي غايته الفناء وإن طالت حياته، ولمّا خلقه على حالة تؤول إلى الفناء لا محالة كان عالمًا بأن من جملة الغايات في ذلك الخلققِ أن يَبلغوا أجلًا.
وبُني {قبل} على الضم على نية معنى المضاف إليه، أي من قبل ما ذُكر.
والأشُدّ: القوة في البدن، وهو ما بين ثمانَ عشرةَ سنةً إلى الثلاثين وتقدم في سورة يوسف (22).
وشيوخ: جمع شيخ، وهو مَن بلغ سِن الخمسين إلى الثمانين، وتقدم عند قوله تعالى: {وهذا بعلي شيخًا} في سورة [هود: 72].
ويجوز في شيوخ ضم الشين.
وبه قرأ نافع وأبو عمرو وحَفص عن عاصم وأبو جعفر ويعقوب وخلف.
ويجوز كسر الشين وبه قرأ ابن كثير وحمزة، والكسائي.
وقوله: {ولَعَلَّكُم تَعْقِلُونَ} عطف على {ولتبلغوا أجَلًا مُسَمَّى} أي أن من جملة ما أراده الله من خلق الإِنسان على الحالة المبينة، أن تكون في تلك الخلقة دلالة لآحاده على وجود هذا الخالق الخَلْقَ البديع، وعلى إنفراده بالإِلهية، وعلى أن ما عداه لا يستحق وصف الإِلهية، فمن عقل ذلك من الناس فقد اهتدى إلى ما أُريد منه ومن لم يعقل ذلك فهو بمنزلة عديم العقل.
ولأجل هذه النكتة لم يؤت لفعل {تعقلون} بمفعول ولا بمجرور لأنه نزل منزلة اللازم، أي رجاء أن يكون لكم عقول فهو مراد لله من ذلك الخلق فمن حكمته أن جعل ذلك الخلق العجيب علة لأمور كثيرة.
{هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)} استئناف خامس ومناسبةُ موقعه من قوله: {هُوَ الذي خَلَقَكم من تُراب} إلى قوله: {ثُمَّ يُخْرِجُكم طِفْلًا} إلى {ومِنكم مَن يُتَوفَّى من قَبْلُ ولتبلغوا أجَلًا مُسَمى ولعلكم تعقِلُون} [غافر: 67] فإن من أول ما يُرجَى أن يعقلوه هو ذلك التصرف البديع بخلق الحياة في الإِنسان عند تكوينه بعد أن كان جثة لا حياة فيها، وخلق الموت فيه عند انتهاء أجله بعد أن كان حيًا متصرفًا بقوته وتدبيره.
فمعنى {يحيي} يُوجِد المخلوق حيّا.
ومعنى {يميت} أنه يُعدم الحياة عن الذي كان حيًّا، وهذا هو محل العبرة.
وأما إمكان الإِحياء بعد الإِماتة فمدلول بدلالة قياس التمثيل العقلي وليس هو صريح الآية.
والمقصود الامتنان بالحياة تبعًا لقوله قبل هذا: {هُوَ الذي خَلَقَكم مِن تُراب} إلى قوله: {ثُمَّ يخرجكم طِفلًا} [غافر: 67].
وفي قوله: {يُحيِي ويُمِيت} المحسن البديعي المسمى الطِّباق.
وفرع على هذا الخبر إخبار بأنه إذا أراد أمرًا من أمور التكوين من إحياء أو إماتة أو غيرهما فإنه يقْدر على فعله دون تردّد ولا معالجة، بل بمجرد تعلق قدرته بالمقدور وذلك التعَلق هو توجيه قدرته للإِيجاد أو الإعدام.
فالفاء من قوله: {فَإذَا قَضَى} فاء تفريع الإِخبار بما بعدها على الإِخبار بما قبلها.
وقول: {كن} تمثيل لتعلق القدرة بالمقدور بلا تَأخير ولا عُدَّة ولا معاناة وعلاج بحال من يرد إذن غيره بعمل فلا يزيد على أن يوجه إليه أمرًا فإن صدور القول عن القائل أسرع أعمال الإِنسان وأيسر، وقد اختير لتقريب ذلك أخصر فعل وهو {كن} المركب من حرفين متحرك وساكن. اهـ.

.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

وقوله تعالى: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} آية تفضل ونعمة ووعد لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بالإجابة عند الدعاء، وهذا الوعد مقيد بشرط المشيئة لمن شاء تعالى، لا أن الاستجابة عليه حتم لكل داع، لاسيما لمن تعدى في دعائه، فقد عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاء الذي قال: اللهم أعطني القصر الأبيض الذي عن يمين الجنة. وقالت فرقة: معنى: {ادعوني} و{استجب} معناه: بالثواب والنصر، ويدل على هذا التأويل قوله: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي} ويحتج له لحديث النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدعاء هو العبادة» وقرأ هذه الآية. وقال ابن عباس: المعنى: وحدوني أغفر لكم. وقيل للثوري: ادع الله، فقال: إن ترك الذنوب هو الدعاء.
وقرأ ابن كثير وأبو جعفر: {سيُدخَلون} بضم الياء وفتح الخاء. وقرأ نافع وحمزة والكسائي وابن عامر والحسن وشيبة: بفتح الياء وضم الخاء، واختلف عن أبي عمرو وعن عاصم. والداخر: هو الصاغر الذليل.
{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} هذا تنبيه من الله تعالى على آيات، وعبر، متى تأملها العاقل أدته إلى توحيد الله والإقرار بربوبيته.
وقوله تعالى: {والنهار مبصرًا} مجازه يبصر فيه، كما تقول: نهار صائم، وليل قائم.
وقوله تعالى: {خالق كل شيء} مخلوق، وما يستحيل أن يكون مخلوقًا كالقرآن والصفات فليس يدخل في هذا العموم، وهذا كما قال تعالى: {تدمر كل شيء} [الأحقاف: 25] معناه كل شيء مبعوث لتدميره.
وقرأت فرقة: {تؤفكون} بالتاء، وقرأت فرقة: {يؤفكون} بالياء، والمعنى في القراءة الأولى قل لهم.
و: {تؤفكون} معناه: تصرفون على طريق النظر والهدى، وهذا تقرير بمعنى التوبيخ والتقريع، ثم قال لنبيه: {كذلك يؤفك} أي على هذه الهيئة وبهذه الصفة صرف الله تعالى الكفار الجاحدين بآيات الله من الأمم المتقدمة على طريق الهدى، ثم بين تعالى نعمته في أن جعل {الأرض قرارًا} ومهادًا للعباد، {والسماء بناء} وسقفًا.
وقرأ الناس: {صُوركم} بضم الصاد. وقرأ أبو رزين: {صِوركم} بكسر الصاد. وقرأت فرقة: {صوركم} بكسر الواو على نحو بسرة وبسر.
وقوله تعالى: {من الطيبات} يريد من المستلذات طعمًا ولباسًا ومكاسب وغير ذلك، ومتى جاء ذكر {الطيبات} بقرينة {رزقكم} ونحو فهو المستلذ، ومتى جاء بقرينة تحليل أو تحريم كما قال تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} [الأعراف: 32] وكما قال: {ويحل لهم الطيبات} [الأعراف: 157] والطيبات في مثل هذا: الحلال، وعلى هذا النظر يخرج مذهب مالك رحمه الله في الطيبات والخبائث، وقول الشافعي رحمه الله: إن الطيبات هي المستلذات، والخبائث، هي المستقذرات ضعيف ينكسر بمستلذات محرمة ومستقذرات محللة لا رد له في صدرها، وأما حيث وقعت الطيبات مع الرزق فإنما هي تعديد نعمة فيما يستحسنه البشر، لاسيما هذه الآية التي هي مخاطبة لكفار، فإنما عددت عليه النعمة التي يعتقدونها نعمة، وباقي الآية بين.
{هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)} لما سددت الآيات صفات الله تعالى التي تبين فساد حال الأصنام كان من أبينها أن الأصنام موات جماد، وأنه عز وجل الحي القيوم، وصدور الأمور من لدنه، وإيجاد الأشياء وتدبير الأمر دليل قاطع على أنه حي لا إله إلا هو.
وقوله: {فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين} كلام متصل مقتضاه: ادعوه مخلصين بالجهد، وبهذه الألفاظ قال ابن عباس: من قال لا إله إلا الله، فليقل على أثرها: {الحمد لله رب العالمين}. وقال نحو هذا سعيد بن جبير ثم قرأ هذه الآية.
ثم أمر الله تعالى نبيه عليه السلام أن يصدع بأنه نهي عن عبادة الأصنام التي عبدها الكفار من دون الله، ووقع النهي لما جاءه الوحي والهدي من ربه تعالى، وأمر بالإسلام الذي هو الإيمان والأعمال.
وقوله: {لرب العالمين} أي إن استسلم لرب العالمين واخضع له بالطاعة.
ثم بين تعالى أمر الوحدانية والألوهية بالعبرة في ابن آدم وتدريج خلقه، فأوله خلق آدم عليه السلام من تراب من طين لازب، فجعل البشر من التراب كما كان منسلًا من الخلوق من التراب.
وقوله تعالى: {من نطفة} إشارة إلى التناسل من آدم فمن بعده. والنطفة: الماء الذي خلق المرء منه. والعلقة: الدم الذي يصير من النطفة. والطفل هنا: اسم جنس. وبلوغ الأشد: اختلف فيه: فقيل ثلاثون، وقيل ستة وثلاثون، وقيل أربعون: وقيل ستة وأربعون، وقيل عشرون، وقيل ثمانية عشر، وقيل خمسة عشر، وهذه الأقوال الأخيرة ضعيفة في الأشد.
وقوله تعالى: {ومنكم من يتوفى من قبل} عبارة تتردد في الأدراج المذكورة كلها، فمن الناس من يموت قبل أن يخرج طفلًا، وآخرون قبل الأشد، وآخرون قبل الشيخوخة.
وقوله: {ولتبلغوا أجلًا مسمى} أي هذه الأصناف كلها مخلوقة ميسرة ليبلغ كل واحد منها أجلًا مسمى لا يتعداه ولا يتخطاه ولتكون معتبرًا.
{ولعلكم} أيها البشر.
{تعقلون} الحقائق إذا نظرتم في هذا وتدبرتم حكمة الله تعالى.
{هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)} قوله تعالى: {فإذا قضى أمرًا} عبارة عن إنقاذ الإيجاد، وإخراج المخلوق من العدم وإيجاد الموجودات هو بالقدرة، واقتران الأمر بذلك: هو عظمة في الملك وتخضيع للمخلوقات وإظهار للقدرة بإيجاده، والأمر للموجد إنما يكون في حين تلبس القدرة بإيجاده لا قبل ذلك، لأنه حينئذ لا يخاطب في معنى الوجود والكون ولا بعد ذلك، لأن ما هو كائن لا يقال له {كن}. اهـ.

.تفسير الآيات (69- 77):

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما علم من هذا أنه لا كلفة عليه في شيء من الأشياء بهذه الأمور المشاهدة في أنفسهم وفي الآفاق، أنتج التعجب من حالهم لمن له الفهم الثاقب والبصيرة الوقادة، وجعل ذلك آياته الباهرة وقدرته القاهرة الظاهرة، فلذلك قال لافتًا الخطاب إلى أعلى الخلق لأن ذم الجدال بالباطل من أجل مقصود هذه السورة: {ألم تر} أي يا أنور الناس قلبًا وأصفاهم لبًا، وبين بعدهم بأداة النهاية فقال: {إلى الذين يجادلون} أي بالباطل، ونبه على ما في هذه الآيات من عظمته التي لا نهاية لها بإعادة الاسم الجامع فقال: {في آيات الله} أي الملك الأعظم {أنَّى} أي وكيف ومن أي وجه {يُصرفون} عن الآيات الحقة الواضحة التي سبقت بالفطرة الأولى إلى جذور قلوبهم، فلا حجة يوردون ولا عذاب عن أنفسهم يردون، لأنه سبحانه استاقهم- كما قال ابن برجان- بسلاسل قهره المصوغة من خالص عزماتهم وعزائهم إرادتهم من حقيقة ذواتهم إلى خزي الدنيا وعذاب الآخرة- فصل ما جادلوا فيه واصفًا لهم بما يزيد في التعجيب من شدة جهلهم وتعاظم عماهم فقال: {الذين كذبوا} وحذف المفعول إشارة إلى عموم التكذيب: {بالكتاب} أي بسببه في جميع ما له من الشؤون التي تفوت الحصر والعظمة في كل أمر كان أشير بأداة الكمال إلى أنه لكماله كأنه لا كتاب غيره لأن من سمعه فكأنما سمعه من النبي- صلى الله عليه وسلم- لإعجازه، فمن كذب بحرف منه فقد كذب بكل كتاب الله.
ولما كان التذكيب به تكذيبًا بجميع الرسالات الإلهية، أكد عظمته بذلك وبالإضافة إلى مظهر العظمة، تحذيرًا للمكذبين من سطواته، وتذكيرًا لهم بأن العمل مع الرسول عمل مع من أرسله، فلذا لفت الكلام على الاسم الجامع لصفتي الجلال والإكرام فقال تعال: {وبما أرسلنا} أي على ما لنا من العظمة {به رسلنا} من جميع الملل والشرائع بكتاب كان أو بغيره، وهو بحيث لا يحاط بكنه جلاله وعظمه حاله، ولذا تسبب عنه تهديدهم في قوله تعالى: {فسوف يعلمون} أي بوعيد صادق لا خلف فيه، ما يحل بهم من سطوتنا.
ولما كانوا في الدنيا قد جمعت أيديهم إلى أذقانهم بجوامع السطوة، ثم وصلت بسلاسل القهر يساقون بها عن مقام الظفر بالنجاح إلى أهويات الكفر بالجدال بالباطل ومهامه الضلال المبين كما قال تعالى: {إنا جعلنا في أعناقهم أغلالًا} [يس: 8] الآية، فجعل باطن تلك السلاسل الدنيوية والأغلال ظاهرًا في ذلك المجمع قال: {إذ} أي حين تكون {الأغلال} جمع غل، قال في ديوان الأدب، هو الذي يعذب به الإنسان.
وقال القزاز: الغل من الحديد معروف، ويكون من القد، وقال في النهاية: هو الحديدة التي تجمع يد الأسير إلى عنقه، ويقال لها جامعة أيضًا- انتهى.
وأصله الإدخال، يدخل فيه العنق واليد فتجمعان به، وذلك معنى قول الصغاني في مجمع البحرين: في رقبته غل من حديد، وقد غلت يده إلى عنقه {في أعناقهم} أي جامعة لأيديهم إلى تراقيهم، وعبر بإذ ومعناها المضي مع سوف ومعناها الاستقبال، لأن التعبير بالمضي إنما هو إشارة إلى تحقق الأمر مع كونه مستقبلًا {والسلاسل} أي في أعناقهم أيضًا يقيدهم ذلك عن كل تصرف لكونهم لم يتقيدوا بكتاب ولا رسول، والسلسلة من: تسلسل الشيء: اضطرب، قال الراغب: كأنه تصور منه تسلسل متردد، فردد لفظه تنبيهًا على تردد معناه، وما سلسل متردد في مقره حتى صفا، حال كونهم {يسحبون} أي بها، والسحب: الجر بعنف {في الحميم} أي الماء الحار الحاضر الذي يكسب الوجوه سوادًا، والأعراض عارًا، والأرواح عذابًا والأجسام نارًا، والقلوب همًا واللحوم ذوبانًا واعتصارًا، وذلك عوض ترفيعهم لأنفسهم عن سحبها بأسباب الأدلة الواضحات في كلف العبادات ومرارات المجاهدات وحرارات المنازلات.